حديث جبريل وشرحه
صفحة 1 من اصل 1
حديث جبريل وشرحه
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبتيه ، ووضح كفيه على فخذيه ، وقال : " يا محمد أخبرني عن الإسلام " ، فقال له : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ) ، قال : " صدقت " ، فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : " أخبرني عن الإيمان " قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، قال : " صدقت " ، قال : " فأخبرني عن الإحسان " ، قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، قال : " فأخبرني عن الساعة " ، قال : ( ما المسؤول بأعلم من السائل ) ، قال : " فأخبرني عن أماراتها " ، قال : ( أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء ، يتطاولون في البنيان ) ثم انطلق فلبث مليا ، ثم قال : ( يا عمر ، أتدري من السائل ؟ ) ، قلت : "الله ورسوله أعلم " ، قال : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم .
شرح الحديث
]size=18]r=green]]الأولى: دل الحديث على بعض آداب طالب العلم ، فمن ذلك ينبغي لطالب العلم أن يحسن الجلوس بين يدي العالم على هيئة التواضع ، وأن لا يسيء الأدب مع شيخه بقول أو فعل أو هيئة ويراعي مع ذلك التجمل وتحسين الثياب والنظافة عند العلماء والفضلاء ، فإن جبريل عليه السلام أتى معلما للناس بحاله ومقاله ، ومما يرشد إليه الطلاب أن يكون قوي النفس لا يستحي عن السؤال وطلب الحق قال أحد السلف "لا ينال العلم مستحيي أو مستكبر".
الثانية: أرشد الحديث إلى بعض آداب العالم مع تلاميذه، فينبغي للعالم أن يتواضع ويحلم على السائل وإن تجاوز ما يجب عليه من التعظيم والتكريم ، ومن آدابه أنه إذا سئل عن شيء لم يعلمه فليقل لا أعلم ولا ينقص ذلك من مكانته وقد كان ذلك من هدي السلف ، كما يحسن به أن يكثر من إلقاء السؤال والجواب على الطالب وهو أسلوب تعليمي نافع أكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم كقوله لمعاذ رضي الله عنه "أتدري ما حق الله على العباد 0000"وقوله لأصحابه "أتدرون من المفلس000" ، وكذلك يستحسن أن ينبه تلامذته على قواعد العلم وأصول المسائل طلبا لنفعهم.
الثالثة: قوله "الإسلام أن تشهد000" حد الإسلام لغة: الإنقياد والخضوع ، واصطلاحا:هو الإستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله،وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل ،وتنقسم الأعمال إلى عمل بدني كالصلاة والصوم ،وعمل مالي كالزكاة ،وعمل مركب منهما كالحج .فالإسلام يشمل جميع الواجبات الظاهرة ،وإنما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر الأمور الخمسة لأنها الأصول التي يبنى عليها ،ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"رواه مسلم. ويدخل أيضا في مسمى الإسلام ترك المحرمات.
أما الإيمان فحده لغة: التصديق ، واصطلاحا: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان .وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتقادات الباطنة ومذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل ، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان ، فقد حكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم .وأنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارا شديدا . وقد دل على دخوله قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) . وفي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا لله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ).
الرابعة : إذا ذكر الإسلام أو الإيمان وحده في نصوص الشرع صار معناه عاما يشمل الأعمال الظاهر ة والباطنة . كما في حديث وفد عبد القيس حيث فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان حينما ورد مفردا بمعنى الدين الشامل للظاهر والباطن . وإذا ذكر الإسلام مقرونا بالإيمان في النصوص صار لكل واحد منهما معنى خاص به ، فالإسلام بمعنى الأعمال الظاهرة والإيمان بمعنى الأعمال الباطنة ، كما في حديث جبريل وبهذا التفصيل يظهر تحقيق القول في مسالة الإسلام و الإيمان هل هما واحد أو مختلفان ، فالتحقيق أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده ، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الإسلام علانية و الإيمان في القلب) أخرجه أحمد، ولهذا قال العلماء كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن .
الخامسة : دلت النصوص على أن من كمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلما حقا أما من أقر بالشهادتين صار مسلما حكما ، فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بشرائع الإسلام وفرائضه ، فإن امتنع عن فعل جميع الفرائض حكم بردته.
السادسة : أركان الإيمان ستة لا يصح الإيمان إلا بها جميعا فمن ترك ركنا منها بطل إيمانه:
الأول: الإيمان بالله وهو الإعتقاد الجازم بوجود الله وربوبيته و ألوهيته وأسمائه وصفاته ووحدانية في ذلك ، أي بأنه لاشريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه و صفاته ، قال الله تعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).
الثاني : الإيمان بالملائكة وهو الاعتقاد الجازم بوجودهم وأن الله خلقهم من نور لعبادته وأنهم عباد مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لايغترون ، ولهم وظائف كثيرة فمنهم الموكلون بحمل العرش ومنهم الموكلون بالوحي ومنهم الموكلون بالجبال ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد ومنهم الموكلون بقبض أرواح المؤمنين ومنهم الموكلون بقبض أرواح الكافرين ومنهم الموكلون بسؤال العبد في القبر ، وأفضلهم جبريل روح القدس عليه السلام وهم كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله لا يأكلون و لا يشربون ولا يتناسلون وخلقتهم عظيمة لهم أجنحة متباينون في عددها وقد أعطاهم الله قوة يتمثلون ويتشكلون في غير صورهم التي خلقها الله عليها وقد حجبهم الله عنا فلا نراهم في صورهم التي خلقوا عليها ولكن كشفهم لبعض عباده كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته له ستمائة جناح قد سد الأفق.
الثالث : الإيمان بالكتب وهو الإعتقاد الجازم بأن الله أنزل على رسله كتبا فيها أمره ونهيه ووعده ووعيده وفيها نور وهدى (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير) أنزلها لأجل هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وهي : القران والإنجيل والتوراة والزبور وصحف إبراهيم وموسى ، وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن وأعظم الثلاثة وناسخها وأفضلها القران .
الرابع : الإيمان بالرسل وهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه أرسل إلى عباده رسلا مبشرين ومنذرين لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور قال تعالى ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ونؤمن بذلك إجمالا لا نعلم عددهم كما قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ونؤمن بهم تفصيلا كما فصلهم الله في كتابه ، وأفضلهم الرسل ثم الأنبياء وأفضل الرسل والأنبياء أولو العزم وهم خمسة : محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين وأفضلهم نبي الإسلام وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الهاشمي (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) والإيمان بواحد منهم يستلزم الإيمان بهم جميعا . والكفر بواحد منهم كفر بجميعهم لأن كل واحد منهم يدعو إلى توحيد الله وطاعته قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
الخامس : الإيمان باليوم الآخر وهو الاعتقاد الجازم بيوم القيامة والإيمان بكل ما اخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت وحتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فنؤمن بأمور الغيب بعد الموت من سكرات الموت وعالم البرزخ ونعيم القبر وعذابه وفتنته وسؤال الملكين وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ونؤمن بيوم القيامة الكبرى الذي يحيي الله فيه الموتى ويبعث العباد من قبورهم ثم يحاسبهم ، وبالنفخ في الصور وهي ثلاث نفخات : نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة البعث والنشور فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس ومنهم من يلجمه العرق ، وأول من يبعث وتنشق عنه الأرض هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتنشر صحف الأعمال فيكشف المخبوء ويظهر المستور ويحصل ما في الصدور ويكلم الله عباده ليس بينه وبينهم ترجمان ويدعى الناس بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ونؤمن بالميزان الذي له كفتان توزن به أعمال العباد وأبدانهم وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، ويردون على حوض النبي صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وريحه أطيب من المسك وآنيته عدد نجوم السماء وطوله شهر وعرضه شهر من شرب منه لم يظمأ منه أبدا ويحرم منه من ابتدع في الدين ، والصراط منصوب على متن جهنم يتجاوزه الأبرار كل على حسب عمله ويزل عنه الفجار ، ثم من نجا من أهل الجنة يحبسون على قنطرة دون الجنة يتقاص أهل الإيمان بعضهم من بعض ثم كل يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى النار ، والجنة والنار مخلوقتان قبل الخلق لا تفنيان أبدا ، والموت يؤتى به يوم القيامة على صورة كبش بين الجنة والنار فيذبح فيصير الخلق في خلود لا فناء بعده ، ونؤمن بشفاعة نبينا وسائر النبيين والملائكة والشهداء والصديقين والصالحين ، ويخرج الله خلقا بغير شفاعة بفضله ورحمته.
السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره وهو الإعتقاد الجازم بأن كل خير وشر بقضاء الله وقدره وأن الله تعالى فعال لما يريد فكل شي بإرادته ولا يخرج عن مشيئته وتدبيره وعلم كل ما كان وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل وقدر المقادير للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضت حكمته وعلم أحوال عباده وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم ، وملخصه : هو ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد قال تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ) وقال تعالى(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) ومراتب القدر أربعة لا يتحقق إيمان العبد إلا بها:
الأولى : العلم وهي الإيمان بأن الله عالم بكل ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون جملة وتفصيلا وأنه علم ما الخلق عاملون قبل خلقهم قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
الثانية : الكتابة وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه من شي فكل ما جرى وما يجري إلى يوم القيامة مكتوب عنده في أم الكتاب قال تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ).
الثالثة : المشيئة وهي الإيمان بأن كل شي يجري في هذا الكون فهو بإرادة الله ومشيئته الدائرة بين الحكمة والرحمة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فمشيئته نافذة وقدرته شاملة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا يخرج عن إرادته شي قال تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا).
الرابعة : الخلق وهي الإيمان بأن الله خالق كل شي لا خالق غيره ولا رب سواه وأن كل ما سواه مخلوق فهو خالق كل عامل وعمله وكل متحرك وحركته قال تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) ، وأن كل ما يجري من خير وشر وكفر وإيمان وطاعة ومعصية شاء الله وقدره وخلقه ، وأنه يحب الإيمان والطاعة ويكره الكفر والمعصية.
والعباد لهم قدرة على أفعالهم واختيار وإرادة لما يصدر منهم من طاعة ومعصية لكن مشيئتهم وإرادتهم تابعة لمشيئة الله وإرادته خلافا للجبرية الذين يقولون إن العبد مجبر على أفعاله ليس له إختيار وللقدرية الذين يقولون إن العبد له إرادة مستقلة وأنه يخلق فعله وأن إرادته ومشيئته خارجة عن إرادة الله ومشيئته والحق ما عليه أهل السنة قال تعالى (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
السابعة: الإحسان من مراتب الدين وهو أخص من الإيمان والإسلام ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه يشتمل على مقامين:
أحدهما: مقام المراقبة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه وإطلاعه عليه وقربه منه ، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله لأن استحضاره ذلك يمنعه من الإلتفات لغير الله.
الثاني: مقام المشاهدة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدته لله بقلبه فيتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان ، وهذا هو حقيقة الإحسان ويتفاوت أهله فيه بحسب بصائرهم .
والإحسان يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم ويوجب أيضا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
الثامنة: ينبغي على العبد أن يستحضر قرب الله ومعيته في العبادة وقد ورد الندب إلى ذلك في السنة الصحيحة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه أو ربه بينه وبين القبلة) متفق عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم للذين يرفعون أصواتهم بالذكر (إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا) وفي رواية (وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه ، وقال بكر المزني "من مثلك يا بن آدم خلي بينك وبين المحراب والماء كلما شئت دخلت على الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان" وقال مسلم بن يسار "ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل" وقال غزوان "إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي" ، وخطب عروة ابن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف فلم يجبه ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه وقال " كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا" ، ومن وصل إلى هذه الحالة في عبادته إستأنس بالله وفرح بلقاءه وانشغل قلبه بذكره واستغنى عن غيره .
التاسعة: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم وقت حدوث الساعة وهو مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحد ففي صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ) ثم قرأ هذه الآية (إن الله عنده علم الساعة) الآية. وقد ذكر في هذا الحديث علامتين من علامات الساعة وكلتاهما وقعت :
الأولى: " أن تلد الأمة ربتها " والمراد سيدتها ومالكتها ، وفسر ذلك بأحد معنيين:
(1) أن يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بأنها أمها وقد وقع هذا في الإسلام ، وفيه كناية إلى انتشار الإسلام وكثرة الفتوح وجلب الرقيق.
(2) وقيل يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من حيث السب والضرب والإستخدام والإستهانة.
الثانية: "أن ترى الحفاة العراة العالة 00" والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤسائهم وتكثر أموالهم حتى يتباهوا بطول البنيان وزخرفته وفي ذلك انقلاب الموازين وفساد نظام الدين والدنيا ، فقد أخرج أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( بين يدي الساعة سنون خداعة يتهم فيها الأمين ويؤتمن فيها المتهم وينطق فيها الروبيضة قالوا وما الروبيضة قال السفيه ينطق في أمر العامة ).
العاشرة: في الحديث إشارة إلى كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من رفع البناء وتزويقه وغيره من فضول المباح في كل شيء ، ولم يكن إطالة البنيان معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بل كان بنيانهم على قدر الحاجة ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله عليه وسلم قال ( لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان ) ، وكلما ابتعد الناس عن هدي النبي وروح الإسلام حصل منهم توسع في المعمار ومبالغة في زخرفة المباني وبذل الأموال العظيمة في سفاسف الأمور ، ولا يؤجر العبد على شيء من ذلك كما روي في سنن ابن ماجه (كل نفقة العبد يؤجر عليها إلا ما أنفقه في الماء والطين).[/justify][/size]
شرح الحديث
]size=18]r=green]]الأولى: دل الحديث على بعض آداب طالب العلم ، فمن ذلك ينبغي لطالب العلم أن يحسن الجلوس بين يدي العالم على هيئة التواضع ، وأن لا يسيء الأدب مع شيخه بقول أو فعل أو هيئة ويراعي مع ذلك التجمل وتحسين الثياب والنظافة عند العلماء والفضلاء ، فإن جبريل عليه السلام أتى معلما للناس بحاله ومقاله ، ومما يرشد إليه الطلاب أن يكون قوي النفس لا يستحي عن السؤال وطلب الحق قال أحد السلف "لا ينال العلم مستحيي أو مستكبر".
الثانية: أرشد الحديث إلى بعض آداب العالم مع تلاميذه، فينبغي للعالم أن يتواضع ويحلم على السائل وإن تجاوز ما يجب عليه من التعظيم والتكريم ، ومن آدابه أنه إذا سئل عن شيء لم يعلمه فليقل لا أعلم ولا ينقص ذلك من مكانته وقد كان ذلك من هدي السلف ، كما يحسن به أن يكثر من إلقاء السؤال والجواب على الطالب وهو أسلوب تعليمي نافع أكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم كقوله لمعاذ رضي الله عنه "أتدري ما حق الله على العباد 0000"وقوله لأصحابه "أتدرون من المفلس000" ، وكذلك يستحسن أن ينبه تلامذته على قواعد العلم وأصول المسائل طلبا لنفعهم.
الثالثة: قوله "الإسلام أن تشهد000" حد الإسلام لغة: الإنقياد والخضوع ، واصطلاحا:هو الإستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله،وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأعمال الجوارح الظاهرة من القول والعمل ،وتنقسم الأعمال إلى عمل بدني كالصلاة والصوم ،وعمل مالي كالزكاة ،وعمل مركب منهما كالحج .فالإسلام يشمل جميع الواجبات الظاهرة ،وإنما اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر الأمور الخمسة لأنها الأصول التي يبنى عليها ،ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"رواه مسلم. ويدخل أيضا في مسمى الإسلام ترك المحرمات.
أما الإيمان فحده لغة: التصديق ، واصطلاحا: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان .وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالاعتقادات الباطنة ومذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل ، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان ، فقد حكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم .وأنكر السلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارا شديدا . وقد دل على دخوله قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) . وفي الصحيحين : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا لله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان ).
الرابعة : إذا ذكر الإسلام أو الإيمان وحده في نصوص الشرع صار معناه عاما يشمل الأعمال الظاهر ة والباطنة . كما في حديث وفد عبد القيس حيث فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان حينما ورد مفردا بمعنى الدين الشامل للظاهر والباطن . وإذا ذكر الإسلام مقرونا بالإيمان في النصوص صار لكل واحد منهما معنى خاص به ، فالإسلام بمعنى الأعمال الظاهرة والإيمان بمعنى الأعمال الباطنة ، كما في حديث جبريل وبهذا التفصيل يظهر تحقيق القول في مسالة الإسلام و الإيمان هل هما واحد أو مختلفان ، فالتحقيق أن الإيمان هو تصديق القلب وإقراره ومعرفته والإسلام هو استسلام العبد لله وخضوعه وانقياده ، كما في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الإسلام علانية و الإيمان في القلب) أخرجه أحمد، ولهذا قال العلماء كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن .
الخامسة : دلت النصوص على أن من كمل الإتيان بمباني الإسلام الخمس صار مسلما حقا أما من أقر بالشهادتين صار مسلما حكما ، فإذا دخل في الإسلام بذلك ألزم بشرائع الإسلام وفرائضه ، فإن امتنع عن فعل جميع الفرائض حكم بردته.
السادسة : أركان الإيمان ستة لا يصح الإيمان إلا بها جميعا فمن ترك ركنا منها بطل إيمانه:
الأول: الإيمان بالله وهو الإعتقاد الجازم بوجود الله وربوبيته و ألوهيته وأسمائه وصفاته ووحدانية في ذلك ، أي بأنه لاشريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه و صفاته ، قال الله تعالى (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).
الثاني : الإيمان بالملائكة وهو الاعتقاد الجازم بوجودهم وأن الله خلقهم من نور لعبادته وأنهم عباد مكرمون لايسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لايغترون ، ولهم وظائف كثيرة فمنهم الموكلون بحمل العرش ومنهم الموكلون بالوحي ومنهم الموكلون بالجبال ومنهم خزنة الجنة وخزنة النار ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد ومنهم الموكلون بقبض أرواح المؤمنين ومنهم الموكلون بقبض أرواح الكافرين ومنهم الموكلون بسؤال العبد في القبر ، وأفضلهم جبريل روح القدس عليه السلام وهم كثيرون لا يعلم عددهم إلا الله لا يأكلون و لا يشربون ولا يتناسلون وخلقتهم عظيمة لهم أجنحة متباينون في عددها وقد أعطاهم الله قوة يتمثلون ويتشكلون في غير صورهم التي خلقها الله عليها وقد حجبهم الله عنا فلا نراهم في صورهم التي خلقوا عليها ولكن كشفهم لبعض عباده كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته له ستمائة جناح قد سد الأفق.
الثالث : الإيمان بالكتب وهو الإعتقاد الجازم بأن الله أنزل على رسله كتبا فيها أمره ونهيه ووعده ووعيده وفيها نور وهدى (آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير) أنزلها لأجل هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور وهي : القران والإنجيل والتوراة والزبور وصحف إبراهيم وموسى ، وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن وأعظم الثلاثة وناسخها وأفضلها القران .
الرابع : الإيمان بالرسل وهو الاعتقاد الجازم بأن الله سبحانه أرسل إلى عباده رسلا مبشرين ومنذرين لهداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور قال تعالى ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) وقال تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) ونؤمن بذلك إجمالا لا نعلم عددهم كما قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) ونؤمن بهم تفصيلا كما فصلهم الله في كتابه ، وأفضلهم الرسل ثم الأنبياء وأفضل الرسل والأنبياء أولو العزم وهم خمسة : محمد ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين وأفضلهم نبي الإسلام وخاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله الهاشمي (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) والإيمان بواحد منهم يستلزم الإيمان بهم جميعا . والكفر بواحد منهم كفر بجميعهم لأن كل واحد منهم يدعو إلى توحيد الله وطاعته قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا).
الخامس : الإيمان باليوم الآخر وهو الاعتقاد الجازم بيوم القيامة والإيمان بكل ما اخبر الله به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت وحتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فنؤمن بأمور الغيب بعد الموت من سكرات الموت وعالم البرزخ ونعيم القبر وعذابه وفتنته وسؤال الملكين وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ونؤمن بيوم القيامة الكبرى الذي يحيي الله فيه الموتى ويبعث العباد من قبورهم ثم يحاسبهم ، وبالنفخ في الصور وهي ثلاث نفخات : نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة البعث والنشور فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس ومنهم من يلجمه العرق ، وأول من يبعث وتنشق عنه الأرض هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتنشر صحف الأعمال فيكشف المخبوء ويظهر المستور ويحصل ما في الصدور ويكلم الله عباده ليس بينه وبينهم ترجمان ويدعى الناس بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ونؤمن بالميزان الذي له كفتان توزن به أعمال العباد وأبدانهم وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره ، ويردون على حوض النبي صلى الله عليه وسلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وريحه أطيب من المسك وآنيته عدد نجوم السماء وطوله شهر وعرضه شهر من شرب منه لم يظمأ منه أبدا ويحرم منه من ابتدع في الدين ، والصراط منصوب على متن جهنم يتجاوزه الأبرار كل على حسب عمله ويزل عنه الفجار ، ثم من نجا من أهل الجنة يحبسون على قنطرة دون الجنة يتقاص أهل الإيمان بعضهم من بعض ثم كل يرى سبيله إما إلى جنة وإما إلى النار ، والجنة والنار مخلوقتان قبل الخلق لا تفنيان أبدا ، والموت يؤتى به يوم القيامة على صورة كبش بين الجنة والنار فيذبح فيصير الخلق في خلود لا فناء بعده ، ونؤمن بشفاعة نبينا وسائر النبيين والملائكة والشهداء والصديقين والصالحين ، ويخرج الله خلقا بغير شفاعة بفضله ورحمته.
السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره وهو الإعتقاد الجازم بأن كل خير وشر بقضاء الله وقدره وأن الله تعالى فعال لما يريد فكل شي بإرادته ولا يخرج عن مشيئته وتدبيره وعلم كل ما كان وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل وقدر المقادير للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضت حكمته وعلم أحوال عباده وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم ، وملخصه : هو ما سبق به العلم وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد قال تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ) وقال تعالى(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) ومراتب القدر أربعة لا يتحقق إيمان العبد إلا بها:
الأولى : العلم وهي الإيمان بأن الله عالم بكل ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون جملة وتفصيلا وأنه علم ما الخلق عاملون قبل خلقهم قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
الثانية : الكتابة وهي الإيمان بأن الله كتب ما سبق به علمه من مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ وهو الكتاب الذي لم يفرط فيه من شي فكل ما جرى وما يجري إلى يوم القيامة مكتوب عنده في أم الكتاب قال تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ).
الثالثة : المشيئة وهي الإيمان بأن كل شي يجري في هذا الكون فهو بإرادة الله ومشيئته الدائرة بين الحكمة والرحمة لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فمشيئته نافذة وقدرته شاملة ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا يخرج عن إرادته شي قال تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا).
الرابعة : الخلق وهي الإيمان بأن الله خالق كل شي لا خالق غيره ولا رب سواه وأن كل ما سواه مخلوق فهو خالق كل عامل وعمله وكل متحرك وحركته قال تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) ، وأن كل ما يجري من خير وشر وكفر وإيمان وطاعة ومعصية شاء الله وقدره وخلقه ، وأنه يحب الإيمان والطاعة ويكره الكفر والمعصية.
والعباد لهم قدرة على أفعالهم واختيار وإرادة لما يصدر منهم من طاعة ومعصية لكن مشيئتهم وإرادتهم تابعة لمشيئة الله وإرادته خلافا للجبرية الذين يقولون إن العبد مجبر على أفعاله ليس له إختيار وللقدرية الذين يقولون إن العبد له إرادة مستقلة وأنه يخلق فعله وأن إرادته ومشيئته خارجة عن إرادة الله ومشيئته والحق ما عليه أهل السنة قال تعالى (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
السابعة: الإحسان من مراتب الدين وهو أخص من الإيمان والإسلام ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه يشتمل على مقامين:
أحدهما: مقام المراقبة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه وإطلاعه عليه وقربه منه ، فإذا استحضر العبد هذا في عمله وعمل عليه فهو مخلص لله لأن استحضاره ذلك يمنعه من الإلتفات لغير الله.
الثاني: مقام المشاهدة وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدته لله بقلبه فيتنور القلب بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان ، وهذا هو حقيقة الإحسان ويتفاوت أهله فيه بحسب بصائرهم .
والإحسان يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم ويوجب أيضا النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
الثامنة: ينبغي على العبد أن يستحضر قرب الله ومعيته في العبادة وقد ورد الندب إلى ذلك في السنة الصحيحة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه أو ربه بينه وبين القبلة) متفق عليه ، وقال صلى الله عليه وسلم للذين يرفعون أصواتهم بالذكر (إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا) وفي رواية (وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) متفق عليه ، وقال بكر المزني "من مثلك يا بن آدم خلي بينك وبين المحراب والماء كلما شئت دخلت على الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان" وقال مسلم بن يسار "ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل" وقال غزوان "إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي" ، وخطب عروة ابن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف فلم يجبه ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه وقال " كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا" ، ومن وصل إلى هذه الحالة في عبادته إستأنس بالله وفرح بلقاءه وانشغل قلبه بذكره واستغنى عن غيره .
التاسعة: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم وقت حدوث الساعة وهو مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحد ففي صحيح البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ) ثم قرأ هذه الآية (إن الله عنده علم الساعة) الآية. وقد ذكر في هذا الحديث علامتين من علامات الساعة وكلتاهما وقعت :
الأولى: " أن تلد الأمة ربتها " والمراد سيدتها ومالكتها ، وفسر ذلك بأحد معنيين:
(1) أن يكثر جلب الرقيق حتى تجلب البنت فتعتق ثم تجلب الأم فتشتريها البنت وتستخدمها جاهلة بأنها أمها وقد وقع هذا في الإسلام ، وفيه كناية إلى انتشار الإسلام وكثرة الفتوح وجلب الرقيق.
(2) وقيل يكثر العقوق في الأولاد فيعامل الولد أمه معاملة السيد أمته من حيث السب والضرب والإستخدام والإستهانة.
الثانية: "أن ترى الحفاة العراة العالة 00" والمراد أن أسافل الناس يصيرون رؤسائهم وتكثر أموالهم حتى يتباهوا بطول البنيان وزخرفته وفي ذلك انقلاب الموازين وفساد نظام الدين والدنيا ، فقد أخرج أحمد من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( بين يدي الساعة سنون خداعة يتهم فيها الأمين ويؤتمن فيها المتهم وينطق فيها الروبيضة قالوا وما الروبيضة قال السفيه ينطق في أمر العامة ).
العاشرة: في الحديث إشارة إلى كراهة ما لا تدعو الحاجة إليه من رفع البناء وتزويقه وغيره من فضول المباح في كل شيء ، ولم يكن إطالة البنيان معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بل كان بنيانهم على قدر الحاجة ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله عليه وسلم قال ( لا تقوم الساعة حتى يتطاول الناس في البنيان ) ، وكلما ابتعد الناس عن هدي النبي وروح الإسلام حصل منهم توسع في المعمار ومبالغة في زخرفة المباني وبذل الأموال العظيمة في سفاسف الأمور ، ولا يؤجر العبد على شيء من ذلك كما روي في سنن ابن ماجه (كل نفقة العبد يؤجر عليها إلا ما أنفقه في الماء والطين).[/justify][/size]
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى